من سلسلة

غموض علمي

الخيال والعلم والرّعب يلتقون معًا في حكايات فريدة

 

رواية

      مشروع أنوبيس –



حمزة فهد زايد

 

 

 

استيقظت على صوت صفير الباخرة، كانت النوارس تحلّق فوق رأسنا، فركت عينّي ووقفت لأتفقد المكان، لقد اقتربنا من جزيرة خضراء كأنها جنة على الأرض، صرخ القبطان:

         “أنزلوا المرساة وانقلوا الصناديق للميناء بسرعة”

تبعه أصوات الطاقم وهم يصرخون بالوتيرة نفسها:

         “حاضر أيها القبطان”

كان قبطان الباخرة ضخم الجثة يتقدّم نحوي:

         “من الجيد أنك استيقظت…لقد وصلنا لمحطتك”

تثاوبت قائلاً:

         “هل أنت متأكد؟ … تبدو لي جزيرةً مهجورةً!”

         “أنت لست أول من نقوم بإيصاله هنا”

ثمّ أشار إلى داخل الجزيرة وأكمل:

         “أترى ذلك المبنى على سفح الجبل؟”

حملقت عيني وركزت ثم بان المبنى معي وقلت:

         “أجل”

         “ذلك مختبر الدكتور إيريك”

أخرجت لفافة تبغ وعرضتها على القبطان، رفض وأخرج غليونه، وضعت لفافة التبغ في فمي واشعلتها ثم قلت:

          “ألن يدخل أحدٌ معي إلى داخل الجزيرة؟”

          “لقد اشترط الدكتور إيريك عدم دخولنا إلى الجزيرة تحت أيّ ظرف من الظروف وإلا تسبب ذلك في عقوبات مالية أو حتى انهاء العقد.

إن الرجل سخي لكنه يكره المتطفّلين، كما ترى نحن نقوم بإنزال المؤن والوقود كل فترة للمختبر هنا وفي بعض الأحيان يخبروننا بأن نوصل شخصًا معين كما حدث معك، على الأغلب سوف تأتي مجموعة من الأشخاص منهم لنقل الصناديق بعد قليل وسوف ينقلونك معهم”

          “لقد قلت انني لست أول شخص تقوم بنقله إلى هنا؟”

          “أجل!”

          “هل سبق أن عاد أحدهم معك في وقت لاحق؟”

          “لا… لكن برأيي أن كل من سبقك… يبني ثروته بسهولة وسعادة مع هذا الرجل السخي، يجب أن تكون سعيدًا أنه أختارك للعمل معه”

رست السفينة على شاطئ الجزيرة، وقام البحارة بإلقاء لوح عريض للنزول منه، قال القبطان:

         “لقد وصلنا، بلّغ تحياتي للدكتور إيريك”

هززت رأسي وشكرته قائلًا:

          “حسنًا، أشكرك على الرحلة”

حملت حقيبتي ونزلت للميناء بين البحارة ذوي العضلات المفتولة، كل واحد منهم كان ينزل صندوقًا خشبيًا ضخمًا ويضعه في الميناء ثم يصعد ليجلب آخر، وقفتُ أمام الصناديق منتظرًا من سيقلني من سكان المختبر.

بعد ربع ساعة انتهى البحارة من عملهم، صعدوا جميعا ثم غادرت الباخرة.

 

عمّ الهدوء والسلام المكان، أصوات الأمواج والطيور وحفيف الأشجار، إن المكان جميل بحقّ.

قطع ذلك التناغم صوتُ هدير محرك، وتوقفت أمامي سيارة قديمة الطراز وزجاجّها الأمامي متشقق وكان مثبتًا بها مقطورة من الخلف، نزل من السيارة رجل عجوز كهل نحيل للغاية ذو بشرةٍ داكنة، وقف أمامي ورفع حاجبه الكثيف ليتفحصني، قلت له وأنا أمد يدي لأصافحه:

          “مرحبًا، أنا دكتور غسان، أنا هنا من أجل دكتور إيريك، لدي عمل معه”

قال وهو يمد بطاقة بيضاء عليها اسمي ويضعها في يدي:

          “أعرف… أنه ينتظرك …تفضّل البطاقة وانتظرني قليلًا في السيارة”

أخذت البطاقة وتوجهت نحو السيارة، وضعت حقيبتي في المقعد الخلفي وركبت بجانبها، انتظرت قليلًا قبل أن أتساءَل إلى أين ذهب ذلك الكهل الذي شارف على الموت؟

أنه لم يركب السيارة بعد، يا لحظي، هل مات في هذه اللحظة بالذات؟!

فتحت النافذة المتسخة …. ورأيت العجوز الكهل واقفًا أمام الصناديق، ماذا ينوي أن يفعل؟

هل يعتقد أنه قادر على حمل أحد هذه الصناديق وحده؟

سوف يحطم عموده الفقري من ثقل صندوق واحد، قلت له:

          “هل تحتاج لمساعــ…”  ابتلعت كلماتي وفتحت عيني مذهولًا لِما أراه.

لقد قام العجوز برفع ثلاثة صناديق مرةً واحدة، كيف؟!

لقد كان البحارة يتصببون عرقًا في أثناء انزالهم لصندوق واحد!

لا … هذا غير منطقي، وسط حيرتي وضع العجوز الصناديق في المقطورة الخلفية، ونظر لي وقال:

          “لمَ ملامح الدهشة هذه! … إن هذه الصناديق خفيفة الوزن”

          “لكن البحارة…”

          “لا تثق بهؤلاء البحارة المخادعون… أنهم يضيعون الوقت بالتظاهر بأن الحمولة ثقيلة وتحميلها بشكل أبطأ، وكلما تأخرت الباخرة بالعودة سيحصلون على مبلغ أكبر مقابل الوقت الإضافي الذي أضاعوه”

هززت رأسي متشككًا، لكن لن أشغل عقلي في هذا الأمر.

 

لم يستغرق العجوز الكثير من الوقت حتى انتهى من وضع جميع الصناديق في المقطورة، ثم أدار محرك السيارة، لم تعمل معه، ثم لَكَمَ مكانًا أسفل مقود القيادة، فبدأت السيارة تعوي وقد دار محركها وانطلق مسرعًا!

مع هذه التشققات الموجودة في الزجاجّ الأمامي…كيف يرى هذا العجوز؟!

الرؤيا غير واضحة ومشوّهة للغاية.

          “أحذر …. شجرة!” صرخت خائفًا!

لكن العجوز كان يقود من دون أيّ مشاكل، ويتجنب الأشجار الموجودة بعشوائية في الطريق الترابي باحترافية، أظنّ أنّ هذا العجوز يحفظ الطريق عن ظهر قلب، ويقود بناءً على ذاكرته، ولا بد أنه قد قطع هذه الطريق آلاف المرات.

 

 توقف أخيرًا على باب المختبر وقال:

          “انزل هنا…واستخدم بطاقة العبور لفتح الباب ثم أعبر الممر وستصل إلى قاعة حيث الدكتور إيريك ينتظرك”

نزلت وأخرجت حقيبتي بينما انطلق العجوز بالسيارة إلى خلف المختبر، وضعت البطاقة على قفل الباب وخرج صوت قبول من الجهاز ثم فتح باب المختبر.

 

دعني أصف المختبر لك، مبنىً ضخمُ الحجم، جدرانه الداخلية والخارجية مطلية باللون الأبيض، ويحتوي العديد من النوافذ المغلقة الزرقاء في كل مكان على الأسقف والجدران، من الخارج كانت بعض النباتات قد استطاعت تسلّق الجدران لتصنع لوحات طبيعية فيها وقد غطت بعض النوافذ، أشعة الشمس تتراقص داخل المختبر حين تتراقص أوراق هذه النباتات.

 

وصلت لنهاية الممر حيث القاعة التي أخبرني عنها العجوز، هناك مصعد أسطواني المنظر في المنتصف، بينما تتشّعب من هذه القاعة الوسطى العديد من الممرات، أخشى أن أضيّع في هذا المبنى عدة مرات قبل أن أحفظ الطرق، فالممرات هنا كلها متشابهة، حتى أنني لا أذكر من أيّ ممر أتيت الآن!!

 

وضعت حقيبتي على أحد المقاعد وتوجهت نحو السياج المحيط بالقاعة الوسطى، من خلف السياج تستطيع رؤية الطابق السفلي، لكن الإضاءة خافتة للغاية في الأسفل.

 

تسللت بقعة ضَوء من إحدى نوافذ السقف وصلت لحجرة في الأسفل، فجأةً… دخل حيوان إلى منتصف بقعة الضوء ونظر نحوي، دققت النظر…أهذا كلب بري؟!

هل يستخدم الدكتور إيريك الكلاب البرية في تجاربه؟

أم هو مجرد كلب ضال قد تسلّل للمختبر من مكان ما؟

فتح الكلب فاه على مصرَعيه بشكل غير طبيعي وغير مألوف بالنسبة لي، أنا لا أعرف حيوانًا يفعل هكذا، لقد فتح فاه في زاوية قاربت التسعين درجة، كان المشهد مثير للريبة.

          “مرحبًا بك يا غسان”، صدر هذا الصوت الخافت من خلفي وجعلني أقفز من مكاني.

التفت خلفي، كان هذا الدكتور إيريك، كيف وصل إلى هنا من دون أن يُحدثّ أيّ صوت؟!

لم أسمع صوت خطوات أو صوت أبواب تُفتح!

ابتلعت ريقي وقلت مرتبكًا:

          “دكتور إيريك!”

          “نادني إيريك، لا داعيَّ للمجاملات هنا… تبدو مرهقًا للغاية يا غسان، لا بد أن رحلتك كانت مرهقة للغاية؟”

عاودت النظر نحو بقعة النور التي اختفى الكلب من وسطها، ثم نظرت نحوه وأنا أشير نحو الأسفل وتمتمت:

          “لقد كان هناك …همم …لا …لا شيء …”

 

ثم تمالكت نفسي وقلت:

          “لقد …لقد كانت رحلةً متعبةً للغاية، قضيت عشرين ساعة في الطائرة وأربع ساعات في السفينة للوصول إلى هذه الجزيرة”

          “حسنًا إذن، دعني أرشدك إلى حجرتك، يجب أن ترتاح اليوم، وغدًا سوف أُعرّفك على المكان”

 

مشينا في أحد الممرات، نظرت جيدًا له، من الغريب أنه يرتدي نظارةً شمسيةً داخل المختبر، لكن لم يكن هذا أغرب ما لاحظته.

          “من الغريب يا إيريك أنه في آخر مرة التقيتك بها قبل عشر سنوات في مؤتمر الابحاث الجينية كنت تبدو أكبر من شكلك الآن! أليس كذلك؟!”

ابتسم قائلًا:

          “أجل، تستطيع أن تخمّن السبب… نظام الحياة على الجزيرة صحيٌ للغاية، الهواء النقي، والماء العذب والطعام الطبيعي غير المصنّع، كل هذا له دور في جعل الصحة أفضل، سيكون هذا الجو العام جيدًا لك”

أخرجت لفافة تبغ وهممت أن أشغلها لكنه أزالها من فمي وقال:

         “سيكون من الأفضل لو توقفت عن التدخين بينما أنت هنا، التدخين ممنوع في المختبر”

كانت حركة غير لبقة، ثم أكمل: ” سأطلب من سيباستيان أن يحضر لك علكة نيكوتين، يوجد لدينا منها في المخزن”

 

وقفنا أمام حجرة، قال وهو يشير إلى الرقم على جانب الباب: “هذه حجرتك يا غسان، حجرة رقم سبعة عشر …”

وضع بطاقته البيضاء على قفل الباب، خرج صوت قبول وفُتِحَ الباب.

في الداخل كانت الغرفة أشبه بغرفةٍ فندقية.

          “إن شعرت بالجوع أو احتجت لأي شيء، تستطيع طلب ما تحتاج عن طريق الهاتف الموجود في الزاوية هنا، وسيجلب لك سيباستيان العجوز ما طلبته، ارتاح الآن حتى صباح الغد”

          “سيكون هذا جيدًا إيريك…”

قال مبتسمًا قبل أن يغادر:

          ” أراك غدًا إذن”

وضعت حقيبتي في إحدى الخزانات، ثم ألقيت جسدي المنهك على السرير، بالرغم من الاختلاف في توقيت الساعات بين بلدي وبين جزيرة جارادي المقدر بثمان ساعات والمشاكل التي يواجها الشخص بسبب ذلك، لكنني نمت كالأطفال.

 

كانت الأحلام في تلك الليلة غريبة، كانت عن ذلك الكلب الغريب الذي رأيته، سمعت أصوات عوائه ورأيته يحاول التهامي وأنا اهرب منه.

 

استيقظت والعرق يغمرني، نظرت إلى الساعة، إنها السادسة صباحًا، يجب أن أقوم بروتين الصباح، سأستحم ومن ثمّ أطلب الافطار من سيباستيان.

 

في الساعة الثامنة جاء الدكتور إيريك إلى غرفتي وخرجت معه للتعرُّف على المختبر، في أثناء سيرنا نحو القاعة الموجودة بمنتصف المبنى، قال إيريك:

          “أرجو أن تكون قد وجدت المكان مريحًا؟”

          “أجل، كان كذلك، لقد جلب سيباستيان قهوة مع افطار مكوّن من بيض والعديد من الفواكه الاستوائية، لا أبالغ أن قلت إن ذلك من أشهى ما تذوّقت في حياتي”

          “أنا سعيد أن ذلك أعجبك”

وصلنا إلى القاعة الوسطى ودخلنا إلى المصعد، ضغط إيريك على زر الطابق السفلي، عرفت من عدد الأزرار أن المبنى مكون من أربعة طوابق، الطابق الأرضي حيث المدخل، الطابق الأول تحت الأرضي حيث المختبر، والطابق الثاني تحت الأرضي والثالث تحت الأرضي، توقف المصعد عند طابق المختبر وخرجنا منه، قام إيريك بتشغيل الإنارة، أجهزة حيوية في كل مكان، وأوعية بها محاليل تطفو فيها أجزاء عضوية مختلفة لحيوانات، أجهزة تحليل وأنابيب هنا وهناك.

          “مرحبًا بك في مختبر إيريك للأبحاث الجينية”، قالها إيريك وقد فرد ذراعيه بطريقة استعراضية.

قلت والدهشة تعلو وجهي:

          “هذا مبهر للغاية، لم أرَ قط مختبرًا بهذا الضخامة والتجهيزات!”

قال وابتسامة ثقة تعلو وجهه:

          “أنت لم ترً شيئًا بعد، هل أنت مستعد لترى إحدى العجائب التي حققناها؟”

ابتلعت ريقي من الإثارة وقلت:

          “بكل تأكيد!”

مشى إيريك إلى الحجرات الزجاجّية الموجودة بعد المختبر، أنار إحدى هذه الحجرات، ليظهر خلف الزجاجّ العديد من الكلاب مثل الكلب المثير للاشمئزاز الذي شاهدته البارحة.

          “ما كل هذه الكلاب الغريبة؟!”

أطلقت كلمة غريبة عليها لأنها من قرب تبدو كائناتٍ مختلفة عن الكلاب، الظهر مخطط كالنمر والذيول غريبة الشكل، ولاحظت أيضًا أنها تبدو مرهقة، قال إيريك وهو يشير لأحد هذه الكلاب القريبة من قفص الزجاجّ:

          “هذا ليس كلبً…أن نظرت إليه من الأمام فسوف تظن أنه من فصيلة الكلاب، أما أن رأيته من الجانب فسوف تظن أنه من النمور، أما أن رأيت ذيله أو بطنه الذي يحتوي جرابًا فسوف تظنه من الجرابيات كالكنغر”

الّصق إيريك يديّه على الزجاجّ بينما فتحت الحيوانات أفواهها بالطريقة المرعبة التي شاهدتها سابقًا وكشّرت عن أنيابها وهي تصدر أصواتًا غريبة وأكمل إيريك:

          “أما إن فتح فمه فسوف ترى إله الموت في وجهه”

لا أدري لما شعرت أن الحيوانات خائفة من إيريك كما خفت أنا أيضًا.

          “لا بد أنكم قمتم بالكثير من التلاعب الجيني للحصول على هذا الكائن”

اعتدل إيريك في وقفته وقال:

          “هذا ليس تلاعب جيني من البشر، بل هو كائن من نتاج الطبيعة… أحد الحمقى الذين قاموا باكتشافه في الماضي أطلق عليه اسم النمر التسماني، بينما هو ليس من فصيلة القطط بالأصل، أُفضل أن اسميه بالكائن أكس إلى أن أعطيه اسم يناسبه”

          “النمر التسماني!، أنا لم أسمع به من قبل”

ابتسم وهو يعبث بنظارته الشمسية وقال بكل فخر:

          “هذا لأن آخر نمر تسماني انقرض في عام 1936 في حديقة هوربارت للحيوان، لقد استطعنا بصعوبة جلب جزء من عيناته المحفوظة في الحديقة، وقمنا بعمليات استنساخ في مختبري، لقد نجحت في استنساخ العديد منهم” 

اقشعَّر بدني من الحماس وقلت:

          “إيريك!… هذا مذهل…مذهل للغاية… لقد أعدت كائنًا اختفى لثمانين عامًا… يجب أن تنشر نتائج ابحاثك… أمر كهذا سيضمن لك دعمًا هائلًا من المجتمع العلمي”

          “ليس بعد، البحث لم ينتهِ بعد”

نظرت للحيوانات العجيبة مرة أخرى وقلت له:

          “ماذا تعني بأنه لم ينتهي؟، ما الذي تنوي أن تفعله بعد هذا الإنجاز المذهل؟”

          “هنا يأتي دورك، أريد أن تساعدني في دراسة ال DNA خاصته، هنالك سبب لقيامي باستنساخ هذا الكائن بالذات من بين كل الكائنات الأخرى التي انقرضت، إن خلايا جسمه فريدة وأعقد من جميع الكائنات التي مرّت عليّ سابقًا، لكن هناك حالة من عدم الاستقرار في الخلايا بعد عملية الاستنساخ، أريد أن أعرف السبب وأن أجد الحل”

          “سيكون لي الشرف في مساعدتك بفعل ذلك”

          “هذا عظيم، الآن سوف أريك المختبر الذي ستعمل به”

وقف إيريك أمام حجرة أخرى وأنارها وقال:

          “هذه غرفة التجارب الأحيائيّة، كما ترى يوجد فيها كل ما تحتاجه لدراسة الحمض النووي وعمل خريطة جينية كاملة له، سيكون هذا المختبر الرئيسي الذي تعمل به”

لن أخبركم عن الأجهزة الطبية المتطوّرة الموجودة في كل مكان، فقد يكفي أن أقول إن جهازًا واحدًا منها يكلّف ثروة لا بأس بها.

قال إيريك وهو يفتح ثلاجة ضخمة الموجودة داخل المختبر:

          ” سوف تجد جميع العينات التي قد تحتاج لها هنا”

ثم أغلق الثلاجة وقال:

          “قبل أن أتركك للعمل، هل لديك أية أسئلة يا غسان؟”

          “أجل، من باب الفضول… لما انقرض النمر التسماني؟”

          “سؤال جيد، تذْكُرُ الكتب بأنه تعرّض على مدى العصور لعمليات صيد ضخمة بهدف اقتنائه أو لمجرد قتله حتى لا يفتك بالماشية، أيّ سؤال أخر؟”

          “لا يوجد حاليًا” وهززت رأسي بالنفي.

          “حسنًا إذن … تستطيع البدء بالعمل الآن …أراك لاحقًا”

 

هكذا تركني إيريك وباشرت بالعمل في المختبر، لم أشعر بمرور الساعات بسبب انسجامي بدراسة الخلايا، فلقد كان الحمض النووي للنمر التسماني فريدًا بحق، كانت معقدّة للغاية وتحتوي على ترتيب بروتيني لم أرَ مثيلًا لها من قبل.

 

لم ألحظ أن الساعة تجاوزت التاسعة مساءً إلا بعد أن بدأت أمعائي تخرج أصواتًا معلنةً إضرابها بسبب الجوع، أعدت ترتيب العينات في الثلاجة وتوجهت مغادرًا نحو المصعد.

 

حين وصلت إلى داخل المصعد، نظرت إلى أزرار الطوابق السفلية التي لم أزرها بعد وغلبني الفضول، ترى ماذا يوجد في تلك الطوابق؟، ضغط على زر الطابق اثنان تحت الأرضي، أضاءت عبارة على لوحة التحكّم في المصعد بأنه يجب وضع بطاقة العبور، وضعت بطاقتي، لكن أنارت عبارة أخرى بأنني لا أمتلك الصلاحية للذهاب لذلك الطابق.

ثم ضغطت على زر رقم ثلاثة تحت الأرضي، فأُغلق باب المصعد وأنطلق للأسفل.

 

توقف المصعد في طابق يمكن وصفه أنه مخزن ضخم يحتوي على صناديق المؤن ومولّد كهرباء ضخم يعمل بالوقود، والسيارة القديمة التي كان سيباستيان يقودها مركونة بمنتصفه، ضغطت على زر الأرضي وأخذني المصعد للقاعة في الطابق العلوي، ماذا يوجد في الطابق المجهول الذي لم أزره؟

ولما لا أمتلك صلاحية للذهاب هناك؟

هل يخفي إيريك سرًا ما!

حين فتح باب المصعد وخرجت للقاعة، تفاجأت بإيريك بجانبي!

هذا الرجل يخرج فجأة من دون أن أشعر به، قال لي وهو ينظر لي من خلف نظارته الشمسية:

          “أخبرني … كيف كان يومك الأول؟”

تمالكت نفسي وقلت:

          “لقد كان رائعًا للغاية، هذا الكائن يمتلك في جيناته شيئًا غامضًا، أنه يتقبّل جميع البروتينات حتى عديمة الاستقرار منها ويضيفها لحمضه النووي، لم يمر عليّ حيوان كهذا قطّ، لكن كما قلت أنت… تنشأ حالة من عدم الاستقرار تؤثر على الحمض النووي”

قال متمتمًا وهو يفكر:

          ” يتقبل جميع البروتينات حتى عديمة الاستقرار ويضيفها لحمضه النووي، مثير للاهتمام ويفسر أمور كثيرة”

          “ماذا تقصد؟”

قال بشيء من الارتباك:

          “لا شيء يهم، أنت بالفعل نابغة في مجالك يا غسان، يجب أن أذهب الآن، لدي عمل مهم، أرجو أن تعود لغرفتك وتتناول العشاء”

ركب إيريك المصعد على عجل، ورأيت المصعد ينزل للطابق الثاني تحت الأرضي حيث لم يقبل المصعد النزول، وتوجهت بعد ذلك إلى غرفتي …

 

 

بعد مرور ثلاثة أيام من العمل الشاق، وضعت عينة وقمت بتجربة بروتينات معدّلة عليه، كنت ألوك علكة النيكوتين لتعوضني عن التدخين، نظرت للعينة التي كانت قد تفاعلت بشكل مبشر… يبدو أنني قاربت على إيجاد بروتين يضمن استقرار الخلايا.

أدركت أن الوقت تأخر ونسيت نفسي مجددًا، ثم استدرت وأسقطت أحد المحاليل على الأرض بالخطأ، صنع ذلك فوضى عارمة، نزلت للأرض حتى أنظف الفوضى، في أثناء ذلك أثار فضولي نقشٌ غريب على الأرض، مسحت الأرضية وقرأت النقش:

          “الحقيقة تكمن في غرفة ثمانية”

تُرى من كتب هذا؟

استوقفني خاطر لم أفكر به سابقًا… لقد أخبرني قبطان الباخرة أنني لم أكن أول من ينقل لهذه الجزيرة ولم يغادر أحد منهم معه، لكنني لم أرَ أحدًا سوى إيريك وسيباستيان، هل يعقل أن باقي العلماء يعملون في الطابق المجهول؟

حتى إن كان هذا صحيح، حجرات الراحة في الأعلى، ولا بد أن يقوم أحد هؤلاء العلماء بالصعود لكي يرتاح عاجلًا أم أجلًا، أليس كذلك؟

لا أدري لما لم يخطر هذا بذهني سابقًا، ربما لأنني اندمجت بالبحث ونسيت نفسي، خرجت من المختبر وعدت إلى القاعة في الطابق العلوي.

 

كنت أسير في الممرات وأطرق أبواب الحجرات لعل أحد هؤلاء العلماء يكون بالداخل.

طرقت باب غرفة رقم ثمانية ولم يرد أحد، وضعت بطاقتي لكن صدر صوت رفض من الجهاز، بالطبع… بطاقتي لا تمتلك صلاحية سوى لفتح حجرتي، سأحاول طرق الحجرات الأُخرى.

 

أظن أنني طرقت ما يزيد عن عشرين حجرة ولم يكن هناك أيّة استجابة من أيّ نوع.

          “ماذا تفعل هنا؟” كان هذا سيباستيان العجوز يقف خلفي.

قلت له وأنا أبتسم ابتسامة صفراء:

          “لقد … لقد أضعت مكان حجرتي … لا زلت لم أحفظ موقعها”

          “ضعت؟! أهذا معقول؟ اتبعني إذًا”

مشى سيباستيان أمامي، كانت بطاقة العبور خاصته في جيبه الخلفي، أراهن أن خادم إيريك يمتلك صلاحيات كاملة، لقد رأيته ذات مرة ينزل لتقديم الطعام لإيريك في الطابق الثاني تحت الأرضي، قلت وأنا أحاول أن أسرق بطاقته:

          “سيباستيان … ماذا يوجد في الطابق أسفل المختبر؟”

          “لا شيء يهمك، أماكن لتخزين المؤن فقط، فلا تشغل بالك بهذا”

          “هل يوجد علماء آخرين يعملون هنا؟”

          “لا يوجد أحد سوى ثلاثتنا هنا، أنا وأنت والدكتور إيريك، لقد رحل هؤلاء العلماء منذ فترة”

ثم قال في آسى:

          “حتى سكان الجزيرة رحلوا”

 

من يكذب يا ترى؟

هل هو قبطان الباخرة أم سيباستيان العجوز؟

 

في هذه اللحظة أمسكت البطاقة من جيبه وسحبتها، لكنه استدار وأمسك ذراعي بخفة لا تناسب عمره، كانت قبضته قوية كادت تهشم ذراعي، وقد رفعني بضع سنتميترات عن الأرض:

          “ما الذي تحاول أن تفعله يا دكتور غسان؟”

          “أرجوك توقف، أعتذر عن هذا، سوف تتحطم ذراعي” قلتها متألمًا.

أرخى سيباستيان قبضته مما جعلني أسقط، وأخذ البطاقة من يدي وأعادها إلى جيبه وقال:

          “أرجو ألا تفعل هذا مجددًا”

وقفت وأنا أفرك ذراعي متألمًا، ثم نظرت نحوه، هذا العجوز يمتلك قوة من غير الممكن أن يمتلكها رجل بعمره، قلت له:

          “لن أفعل هذا، فقط ارجعني لغرفتي رجاءً”

بعد عدة أمتار، توقف أمام حجرتي ووضع بطاقته وفتح الباب، قال:

          “تفضل بالدخول، سوف أذهب الآن لأعد لك وجبة العشاء”

دخلت للحجرة بينما غادر سيباستيان العجوز، الآن لا أملك الكثير من الوقت، لقد قمت باستبدال بطاقتي ببطاقته قبل أن يمسك بذراعي، لا أعلم متى سوف يدرك هذا، أرجو أن يمهلني ذلك الوقت الكافي، يجب أن أرى ما في الغرفة رقم ثمانية وما في الطابق المجهول، كل شيء هنا يحيط به غموضٌ لعين.

انتظرت دقيقة ثم فتحت الباب وألقيتُ نظرةً فاحصةً في الممر، لا يوجد أثر لسيباستيان، ركضت نحو حجرة رقم ثمانية.

حين وصلت …وضعت البطاقة على قفل الباب وصدر صوت قبول، فُتح الباب ودخلت.

 

كانت الحجرة مشابهة لحجرتي لكن كل شيء هنا يدلُّ على أن شخصًا ما كان هنا، توجد ملابس ومعدات طبية وخطوط دماء على الباب كأن شخصًا كان يحاول فتح الباب بقوة من الداخل، ما الذي حدث لهذا الشخص؟  

لا يمكن أن يكون قد غادر وترك ملابسه ومعداته هنا، يجب أن أبحث عن أيّ دليل، لا بد من وجود شيء يدلُّ على هوية من كان في هذه الحجرة.

 

قمت بتفتيش الغرفة، حتى وصلت إلى أسفل الملاءة، كان هناك جهاز تسجيل كاسيت قديم، أخرجته وقمت بإعادة الشريط إلى البداية ثم قمت بتشغيله:

“مدخل سجل رقم واحد:

الخامس والعشرون من يونيو عام 1996، اسمي إيداشي هيرويوكي، عالم جينات، أتيت لجزيرة جارادي بعد دعوة من صديقي الروسي الطيب إيريك سيرجيفا للقيام ببحث أثار اهتمامي.

وبمجرد أن وصلت اليوم، تعرّفت على العلماء القادمين من أماكن مختلفة بدعوة أيضًا من إيريك، من الطريف في الأمر أننا جميعنا كنا غير متزوجين ومن دون عائلة تنتظرنا في الوطن، صدفةٌ غريبة وجميلة جعلتنا نرتبط بصداقة سريعة.

لاحقًا قمنا بجولة داخل المختبر، مختبر ضخم ومبهر بحق، لكن إيريك لم يأخذنا للطابق الثاني تحت الأرض، هذا لم يعجب أحدًا من الحاضرين، بعد أن انتهينا من الجولة الداخلية، أخذنا إيريك في جولة حول الجزيرة، مررنا بقرية صغيرة من أناس بدائيين، كانوا ودودين للغاية…

الجزيرة تبدو كالحلم وأنا سعيد بكوني جزءًا من هذا المشروع…  في الغد سنبدأ أول يوم عمل.

 

مدخل سجل رقم اثنين:

السابع من يوليو 1995، وصلت لنا أخبار عن نجاح استنساخ النعجة دوللي في الولايات المتحدة، ذلك أعطانا الحافز والإيمان بقدرتنا على استنساخ ذلك الكائن الذي انقرض، بالرغم من أنني لا أعلم لما أيريك أختار هذا الكائن بالذات، لكن سيكون من الجيد أعادته للحياة في هذا العالم، اسم الكائن النمر التسماني لكن إيريك كان يسميه بالكائن أكس

مدخل سجل رقم ثلاثة:

التاسع عشر من نوفمبر 1995، نجحنا أخيرًا بعد شهور من العمل الشاق في الحصول على جنين مستقر للكائن أكس، هذا النجاح الضخم يستحق الاحتفال، لكن للأسف اكتشفنا أن ايريك يعاني مشكلةً صحيةً، ورفض بشكل قاطع محاولاتنا في إقناعه لمغادرة الجزيرة مؤقتًا ليأخذ العلاج اللازم.

 

مدخل سجل رقم أربعة:

السابع من مارس 1996، حصلنا على أول كائن مكتمل النمو، سبقٌ علميٌ عظيمٌ، لكن إيريك رفض الإفصاح عن هذا للعالم، بالرغم من أن صحته قد تدهورت للغاية، وقد يموت في أيّ لحظة قبل أن يحصل على مجد الاكتشاف، اكتشاف مثل هذا سوف يغيّر مستقبل علم الجينات بشكل هائل!

بعد أن انتهى اليوم وعاد الجميع لحجراتهم… وتذكرت أنني نسيت جهاز التسجيل هذا في المختبر… فرجعت ورأيت شيئًا غريب… رأيت إيريك يتسلل لقفص الكائن أكس ويخدره!

ما الذي يفعله؟ هذا ليس من إجراءات البحث الحالية!

أخرج حقنة فارغة ومن ثم سحب بعضًا من دماء الكائن، بعد ذلك انسحب إلى المصعد ونزل لطابقه الغامض، ما الذي ينوي فعله هذا الرجل يا ترى؟ ولماذا يرفض أن يقترب أيّ شخص من طابقه الخاص؟

 

مدخل سجل رقم خمسة:

الثامن والعشرون من مارس 1996، إن إيريك عبقري، لقد أثار دهشتنا باكتشافه لخصائص علاجية موجودة في خلايا الكائن، لكن إيريك لم يكن راضيًا عن النتائج، أخبرنا بأن هناك حالة من عدم الاستقرار في الخلايا، لكن كيف ومتى عرف هذا؟، التفسير الوحيد أنه يقوم بتجارب مختلفة في الطابق الذي لا يستطيع غيره من الدخول إليه؟

 

مدخل سجل رقم ستة:

الرابع من أبريل 1996، طلب منا إيريك استنساخ عدد من هذه الكائنات لصنع مزرعة حيوانية من الكائن أكس وزيادة عددها وبدأنا في هذا.

في عصر اليوم رأيته يسعل بشدة والدم يخرج منه، ثم سقط مغشيًا عليه، قمت بالإسعافات اللازمة لكن لاحظت وجود آثار لحُقَنٍ عديدة في ذراع الرجل، هل هو مدمن على مخدر ما؟ لا أعتقد ذلك، أمر كهذا كان سيبدو جليًا لنا.

أمر أخر غريب حدث في مساء اليوم هو غياب زميلنا العالم الهندي تشاندان، قال لنا أيريك أن تشاندان قد تلقى خطابًا البارحة من عائلته بضرورة العودة لظروف طارئة ولهذا غادر بأسرع ما يمكن.

ترى كيف رحل من الجزيرة؟ الوسيلة الوحيدة للخروج هي باخرة النقل وقد رحلت بالفعل قبل ساعات من رؤيتي له آخر مرة!

 

مدخل سجل رقم سبعة:

السادس عشر من يوليو 1996، الفترة الماضية حدث الكثير من الأمور المثيرة للشكوك، لسبب ما فقد كانت صحة إيريك تتحسّن بشكل ملحوظ، تزامن ذلك مع حالات اختفاء من حيوانات التجارب، ثمّ وجدنا انتشار لحالة تسمم دم حاد عند سكان القرية في الجزيرة!، طلب إيريك منهم القدوم لمختبره لكي يساعدهم، هذا يثير آلاف التساؤلات… من غير الممكن أن كل ما حدث مجرد مصادفة…أنا لم أعد أحتمل الأسرار التي يخفيها إيريك؟، يجب أن أعرف ماذا يفعل في طابقه اللعين هذا؟

 

مدخل سجل رقم ثمانية:

التاسع عشر من يوليو 1996، عادت نوبات الألم لإيريك بعد أن تحسّن لفترة، قمت باستغلال الفرصة وحقنه بمخدر بجرعة مضاعفة، بعد أن خلد للنوم، أخذت بطاقته.

أنا الآن في طريقي نحو الطابق اللعين، دخلت المصعد وضغطت على زر النزول لذلك الطابق ثم وضعت البطاقة على الجهاز وخرج صوت الموافقة، أخيرًا، سوف أضع نهاية لكل التساؤلات.

 

فتح باب المصعد وخرجت، هذه أول مرة تطأ فيها قدميّ هذا المكان، أرى أمامي مكتبًا للعمل ومختبرًا وأقفاصًا زجاجّية في نهاية المكان، تصميم مشابه للطابق الذي نعمل به، سأدخل مكتبه الآن، هنالك أوراق مبعثرة من ملف على مكتبه، أمسكت الملف، مكتوبٌ عليه مشروع أنوبيس، وهناك مخطوطات قديمة مكتوبة بلغات لا أعرفها ولكنها تحوي صورًا تدلُّ على الكائن أكس، ومخطوطات فرعونية تظهر رجل برأس كلب وتحت الرسوم كلام بالهيروغليفية، وهناك رسمة قديمة لشخص يبدو أنه ملك من ملوك العصور الوسطى يستحم بدماء الكائن أكس معلّق من ساقيّه على السقف، رسومات مثيرة للقشعريرة في كل مكان.

إحدى الأوراق مكتوب عليها: – لقد عرفوا السر وقتلوا هذا الكائن للحصول على الشباب والقوة، إنهم لم يتركوا شيئًا لي! –

 ما يقصده بهذا؟

يوجد ملف مميّز على الطاولة، سأرى ما به …

(صوت فتح باب مصعد)

سمعت صوت المصعد يفتح من خلفي، هل … هل استيقظ إيريك؟

لا يمكن؟

تلك الجرعة تكفي لوضع فيل في غيبوبة لساعات!

سأخبئ الملف داخل قميصي من باب الحيطة.

 

(صوت إيريك مترنحًا وغاضب)

          “ماذا فعلت يا إيداشي؟ هذا المكان غير مسموح لأي كائن أن يدخل هذا المكان غيري، أعد لي بطاقتي الآن”)

          “لكن كيف؟ كيف أتيت من دون بطاقة؟”

          “أيها الغبي، أنا فقط من أضع الصلاحيات وألغيها من أيّ بطاقة، أخرج …أخرج الآن، وحين استرد وعيي بشكل كامل سأرى ما سأفعله بك!”

 

 

مدخل سجل رقم تسعة:

لقد عدت لحجرتي، وعقلي لا يستطيع استيعاب ما جرى، ولا زال قلبي يخفق بشدة، لقد سرقت الملف ولم يدرك إيريك هذا بعد، سأرى ما يحتويه.

يوجد صورة لأشخاص بالأبيض والأسود، مكتوب بجانب الصورة الأولى… تشارلز غوثري، نجح في عام 1908 بزراعة رأس كلب إلى جانب عنق كلب آخر، ومكتوب بالخط الأحمر…ماتت الكائنات الخاضعة للتجربة في النهاية…

 

فتحت الصفحة التالية، الصورة بالأبيض والأسود لعالم آخر وبقربها كتب…  سيرجي بروخونينكو، في عام 1928 قام باختراع جهاز يحاكي عمل القلب والرئة، واستطاع إبقاء رأس كلب مقطوع على قيد الحياة لفترة، ثم أعاد زراعته مرة أخرى، وبالخط الأحمر كتب …ماتت الكائنات الخاضعة للتجربة في النهاية.

 

الصورة التي تلي ذلك…فلاديمير ديموكوف 1954 قام بعمل عمليات جراحية لدمج فصيلتين مختلفتين من الحيوانات وزراعة رأس الكلاب للخنازير وزراعة رأسين لكلب واحد، ماتت الكائنات الخاضعة للتجارب في النهاية… 

 

هذا الملف مليء بصور لعلماء قاموا بتجارب شاذة …شعرت بالاشمئزاز… هذه تجارب لا أخلاقية … أنها جرائم بحق الطبيعة… سأخبر زملائي الآخرين، لا بد أنه يخطط للقيام بتجربة لا أخلاقية مشابهة، يجب أن نضع حدًا لهذا المعتوه!

(صوت رفض البطاقة)

الباب يرفض بطاقتي ولا يفتح!، إلهي… لقد ألغى صلاحيات بطاقتي! 

(صوت رفض البطاقة)

اللعنة!

 

مدخل سجل رقم العاشر:

لقد مضت عدة أيام وأنا في محجوز في هذه الغرفة، أكاد أموت من العطش والجوع، مهما صرخت فقد صممت الغرفة لعزل الصوت، هذا اللعين إيريك سوف يخبر زملائي بأي كذبة ليبرر اختفائي المفاجئ كما فعل سابقًا مع تشاندان، أرجو أن يجد هذا التسجيل شخص ما قبل إيريك، لا بد من أنه سيبحث عن عالم آخر متخصّص في الجينات في وقت ما لأن بحثه لم ينتهِ بعد، وأرجو أن يجد هذا الشخص التسجيل هذا قبل أن يفقد حياته…

 

وداعًا أيتها الحياة القاسية …في النهاية سأموت وحيدًا ولن يفتقدني أيّ شخص… وداعًا… إيداشي هيرويوكي”

 

 

إلهي … ما كان هذا؟

إن إيريك رجل مختل، لقد قتل إيداشي بتركه يموت جوعًا!

أتساءَل عن ماهية ابحاث إيريك السرية؟

لدي تصوّر يثير الرعب لما يجري لكني أرفض أن أتقبل الفكرة، هرعت خارجًا من الغرفة رقم ثمانية.

فور أن خرجت، سمعت صرخات غضب قادمة من أحد الممرات، على الأرجح هي صرخات سيباستيان الغاضب وهو يبحث عني الآن بالقرب من حجرتي رقم سبعة عشر.

هرعت لقاعة المصعد، ولجت لداخله، ووضعت بطاقة سيباستيان وضغطت على زر الطابق الثاني تحت الأرضي، انغلق الباب وتحرّك المصعد، لقد نجحت…

ما الذي ينتظرني في ذلك الطابق؟

فُتحَ باب المصعد، مشيت قليلًا واختبأت خلف أحد الأعمدة، سمعت صوت إيريك متحمسًا: “أجل… ذلك العبقري غسان… لقد نجح في كشف البروتين بنسبة عالية…أجل”

كان إيريك واقفًا أمام حاسوب يتصفّح نتائج عملي في مختبره، لولا إنارة الحاسوب لما رأيت الرجل، فقد كانت إنارة الطابق جميعها مغلقة.

بقربي غرفة بابها مفتوح، دخلت فيها لأجدها مكتب عمل إيريك، على الطاولة توجد ملفات مبعثرة كما وصفها إيداشي، أمسكت الملف الموجود على الطاولة، وأشغلت الولاعة لأرى ما كتب على ضوئها، بصعوبة قرأت ما كتب على الغلاف “مشروع أنوبيس”، أنه الملف الذي تكلّم عنه إيداشي، عدت إلى العمود وألقيت نظرة أخرى نحو إيريك، كان لا يزال منهمكًا بعمله، قمت بإشعال الولاعة مرة أخرى كي أستطيع قراءة الملف، وتجاوزت الصفحات القديمة ثم في إحدى الصفحات التالية مكتوب:

          “احتجت للقيام بالتجارب على البشر، لم أجد أفضل من القيام بالتجربة على تشاندان الفضولي، لقد أزعجني تساؤلاته الملحة المليئة بالشك، قمت بتخديره ليلًا وأخذه إلى مختبري والقيام بالتجارب عليه، للأسف لم تنجح التجربة ومات الرجل في أثناء القيام بها”

في الصفحة التالية:

         “أنا قريب من اكتشاف مصل الخلود، أشعر بذلك، بالرغم من أن نهايتي اقتربت إلا أنني سأستمر، أحتاج للمزيد من القيام بالتجارب على بشر، لا يوجد لدي حلٌ سوى استخدام سكان القرية للتجربة… سوف أفرغ أحد صناديق الفضلات السامة ليسبب ذلك بتسمم في الدم لدى سكان الجزيرة… ثمّ سأقوم بإقناعهم بأنني أمتلك العلاج”

 

          “نجحت بإحضار السكان لمختبري وقمت بحقنهم بدماء الكائن أكس مع تجربة بروتين مختلف للتثبيت لكل شخص…. مات الجميع ما عدا العجوز سيباستيان، توافق الجسم مع الدم الجديد والبروتين -زد 144-، مع المراقبة عن كثب هناك نشاط وقوة لم تكن سابقًا لدي العجوز!… تمامًا كما كتب في المخطوطات، الآن أستطيع أن أعالج نفسي … الآن وجدت السر…  أشعر بالقوة …” 

الصفحة التالية:

          “عالم أخر فضولي كاد أن يجعلني فضوله أفقد حياتي، من الجيد أن جسمي بدأ يستجيب للبروتين – زد144-، سأقوم بتجربة من نوع آخر على إيداشي المحتجز منذ ثلاثة أيام، أن يموت كتجربة أفضل من أن يموت من الجوع…

اللعين … كان لا يزال يمتلك طاقة، هرب مني ليخبر الجميع، من حسن الحظ أنني ألغيت الصلاحيات للوصول إلى الطابق الأرضي، وجدته يبكي على أرض غرفة مختبر الأحياء وهو يمسك أداء حادة، أظن أنه كان يحاول قطع شرايينه، قمت بالتجربة عليه…النتائج الأولية مبشّرة لكن بعد وقت مات من الصدمة العصبية”

 

الصفحة التالية:

          “أثار اختفاء إيداشي بعد أن اختفى سكان القرية وتشاندان تساؤلات مزعجة لا حصر لها لدى أعضاء الفريق، لهذا وجب أن أقوم بحجزهم في حجراتهم وبتخدير كل واحد على حدا ثم القيام بالتجارب عليهم جميعًا، من الجيد أن الرجل العجوز سيباستيان مقتنع بأنني أنقذت حياته وأنه مدين لي لهذا، أنه لا يحسن القراءة وهذا صبَّ أيضًا في مصلحتي، قام بمساعدتي باستخدام قوته البدنية التي اكتسبها من المصل، هو أول جندي أعلن ولائه لي لكنه غير مكتمل، أريد صنع كائنات ولائها المطلق لي وحدي، تفعل ما أمرها به، كائنات لا تقهر، وتعيش لعمر طويل، يجب أن أصنع جيش أنوبيس!

          “حاولت مع الأخرين ولا زال هناك حالة من عدم الاستقرار… تجاربي في صنع الكائن المطلق فشلت، أنهم يصابون بتلف عصبي ومن ثم موت بصدمة عصبية…. يجب أن أجد بروتين أفضل… يجب أن أقنع ذلك العالم المصري بأن يأتي ليساعدني في ذلك”

 

نظرت نحو المكان الذي كان به إيريك، لم يكن الرجل في مكانه هذه المرة، اللعنة!، هل غادر أم …..

          “ماذا تفعل هنا أيها اللعين؟! …. هذا المكان لا يسمح لك بالتواجد فيه”

 

صوت إيريك غاضب من خلفي، ما بال هؤلاء القوم، أنهم يخرجون فجأة دون أن أشعر بهم، كانت هذه أول مرة أرى وجهه من دون نظاراته الشمسية منذ أن أتيت للجزيرة، أكاد أقسم أن عينيه تومض باللون الأحمر، و … إنها مشقوقة من النصف، أصابني ذلك بفزع كبير، هذا الرجل سيقضي عليّ لا محالة، وسأصبح أنا تجربته الجديدة…

         “لا… أنت وحش عديم الإنسانية”

من شدة الفزع أشعلت الملف وألقيتهُ في وجهه وهربت في الاتجاه المعاكس له …

إنني أبتعد عن المصعد، أسمع صرخات من غير الممكن أن تصدر من بشري، أنها تخرج من إيريك، ما هذه الورطة التي أنا بها!

وصلت لمنطقة مظلمة للغاية، كانت الرائحة كريهة، رائحة تستطيع وصفها بأنها رائحة الموت، سمعت صراخ إيريك الغاضب:

          “غسان…أنت لا تعرف مدى الخطأ الذي اقترفته”

أين هي مفاتيح تشغيل الإنارة حين تحتاجها!؟

كنت أتحسس الجدار، اتسعت عيني حين سمعت:

          “ستكون أنت تجربتي القادمة”

كان الصوت كالفحيح بقرب اذني، أحسست بيد تلتف حول عنقي وتكاد تعتصره، أكاد أختنق، أين مفاتيح تشغيل الإنارة!؟

         ” كلما قاومت كلما تعذبت أكثر”

إن كان التصميم مشابهًا للمختبر بالأعلى فيجب أن تكون هنا، تحسست بأصابعي الجدار، بالفعل، هي هنا!

لكن إيريك قام بسحبي من عنقي قبل أن أضغط عليهم وهو يقول:

          “لا تتجرأ على فعل هذا”

يكاد يغمى عليّ، بما تبقى لدي من قوة قمت بركل مكان مفاتيح الإنارة، ذلك قام بتشغيل عدد لا بأس منه من وحدات الإنارة، صرخ إيريك وأحسست بقبضته تختفي:

          “أيها الوغد” وكما ظهر خلفي فجأة، اختفى فجأة …

ليتني لم أشغل الإنارة، ما رأيته كان أشنع من أن أتحمله، أشنع من أقوم بوصفه، كانت أقفاص زجاجّية تحتوي على تجارب، تجارب قام بها إيريك على الحيوانات وعلى … على بشر!

جثث وعظام في كل مكان، واللعين في الأمر أن بعض هذه التجارب على قيد الحياة… لكن في صدمة عصبية مرعبة، العديد من تلك التجارب الشاذة كما فعل العلماء المذكورين في الملف لكنها خليط بين البشر والكائن أكس معًا، رؤوس بشرية مقطوعة في كل مكان، رؤوس الكائن أكس مزروع على أجساد بشر، لن أصف أكثر من ذلك لأنني لم أتحمل المشهد وأفرغت ما في معدتي!

هذا الجنون بعينه، هذا الرجل يستحق أن يكون نزيلًا في مستشفى المجانين بامتياز، من بعيد سمعت صوت إيريك يتردد في أرجاء المختبر:

          “أنت تعلم أن الأمر سوف ينتهي كواحد منهم”

          “إن ما تقوم به يعد جريمة”

          “أنت لا تفهم … لا تفهم شيئًا، لن تفهم إلا حين تكون على حافة الموت ولا يفصلك شيء عنها ثم تنجو وتصبح أقوى من أيّ وقت مضى، أقوى من أيّ بشري، ستعرف في تلك اللحظة الحقيقة، ستعرف بأنك أنوبيس، ستعرف بأنك بحاجة إلى جيش خارق يتبع أوامرك بلا معارضة أو تفكير، لقد كنت مصابًا بمرض لا شفاء منه، ويئست من العلاج باستخدام العلم الذي أفنيت حياتي لأجله، ثم وجدت أسطورة هذا الكائن في أحد رسومات العصور الوسطى.

 بحثت بعمق عن هذه الأسطورة ووجدت أن بعض العلماء اكتشفوا مخطوطات فرعونية تكشف الحقيقة، كان يتم التضحية به للملوك ويشربون من دمه مقابل أن يعيشوا عمرًا أكثر، في إنجلترا وفرنسا اكتشفوا هذه الحقيقة وسموه بالكلب الأسود كناية عن الموت والحياة، وكانوا يقومون بقتله والاستحمام في دمه للحصول على حياة خالية من الأمراض، وبدأ سره ينتشر أكثر، إلى أن أدى قتلهم الجائر إلى انقراضه من عدة أماكن.

ثم الحمقى في أستراليا أطلقوا عليه اسم النمر التسماني وحين عرفوا حقيقته استحموا بدماء آخر واحد منهم، كنت أعرف أن دماء الكائن أكس لها خصائص خارقة في العلاج، لهذا قمت باستنساخه، لكن عملية الاستنساخ جعلت خلاياه ناقصة لبروتين ما وغير مستقرة، إلى أن نجحت أنا ووجدت بروتين يجعلها في حالة استقرار جزئي، لقد شُفيت بعد أن استبدلت دمائي بدماء الكائن أكس، لقد تمحورت خلايا الدم لتناسب دماء البشر …. لكن حالة من عدم الاستقرار في الخلية جعلتني بحاجة لأن أبدّل جزءًا من دمائي في كل فترة، إلى أن أتيت أنت لتجد البروتين المفقود، وقد نجحت في ذلك… لقد وجدتَ البروتين المناسب تمامًا… وقد حقنت نفسي به قبل قليل!”

ثم من بقعة مظلمة خرج إيريك، لم يكن يرتدي معطفه كما اعتدت أن أراه، قال:

          “والآن تأقلم جسدي بأكمله مع الدماء”

 

أدركت لما يظهر فجأة ويحدد مكاني بسرعة، أدركت سر قوته الخارقة، لقد كانت ذراعيه وساقيه منتفخين بعضلات ويكسوها فرو مخطط مثل فرو الكائن إكس، قلت برعب:

           “لقد تمحورت خلاياك وأصبحت أقرب لخلايا الكائن أكس”

          “أجل …أنا أمتلك الآن حدة بصره وسمعه وقوته الجسدية، لقد حصلت على القوة التي أردتها، أنا لم أعد إيريك، أنا أنوبيس، أنا إله الموت لدى البشر، ومن يعصي أوامري يستحق الموت!”

أردت أن أقول شيئًا، لكنه انقض عليّ وأمسكني بعنف من عنقي ورفعني من على الأرض.

          حيلك هذه لن تنفع بعد الآن، سوف أقوم بتجارب عليك، وقد تنجح وتصبح أول جندي مكتمل من جيشي الخارق، لن أعد بشيء سوى الكثير من الألم والخوف”

           

اسودت الدنيا حولي وفقدت الوعي، لا أعلم لما عدت أحلم عن ذلك الكلب الذي يطاردني ويحاول أن يلتهمني، استيقظت والهلع يملأ قلبي، حاولت التحرّك، لكن لم أستطع، بهستيرية نظرة حولي، كنت مثبتًا على سرير عمليات وبالقرب مني نمر تسماني مخدر مثبت على السرير بقربي، وفي الجهة المقابلة كان سيباستيان يقف أمام الأدوات ويقوم بتعقيمها، قلت بفزع لسيباستيان:

          “أيريك، هذا وحش يا سيباستيان، أرجوك دعني أخرج”

لم يرد علي، قلت وأنا أكاد أبكي:

          “أين إيريك؟”

          “أنه يقوم بتعقيم يديه وملابسه للقيام بالجراحة”

          “أرجوك يا سيباستيان، أطلق سراحي، أنت تعلم أن هذا الرجل مجرم”

قال وهو يسير نحوي وبيده حقنة:

          “أنا أدين حياتي لإيريك … أصمت وسأقوم بتخديرك جيدًا حتى لا تشعر بشيء… هذا أكثر ما أستطيع القيام به لك”

          “أنت تعلم أنك لم تكن سوى تجربة له، لم يكن يقصد أن يساعدك”

لم يهتم ووقف فوق رأسي، أمسك ذراعي لكي يحقنني، أغمضت عيني وقلت:

          “لقد رأيت ملفاته، لقد كان هو من قام بتسمم قريتك، هو من تسبب بذلك، وهو من قام بتجارب لمصلحته مات فيها سكان القرية ما عداك، أنت لم تكن سوى تجربة قد نجحت بالصدفة…أنت وسكان القرية لم تكونوا سوى تجربة له، أرجوك أن تصدقني”

توقف سيباستيان عما كان يقوم به، فتحت عيني ووجدته دموعًا تنهمر من عينيه:

          “أنت…من الذي أدراك! … كيف … أنا لم أخبرك…كيف عرف عن تسمم القرية؟”

 

دخل إيريك وقد ارتدى لباس العمليات، وقف بالقرب من سيباستيان وقال له:

          “لما هو مستيقظ حتى الآن! … ألم تقم بتخديريه بعد”

 

ثم في مشهد لم أتوقعه، غرز سيباستيان حقنة التخدير في عنق إيريك.

          “إيريك أيها الحقير…منذ البداية كنت أنت سبب وفاة عائلتي وشعبي…لماذا؟”

زأر إيريك وركل سيباستيان ركلة جعلته يطير في الهواء بضعة أمتار ليصطدم بالحائط ثم يسقط، ترنح إيريك وسقط بمفعول المخدر على الأرض، وزحف سيباستيان نحوي، بصعوبة تسلق على السرير وفك قيدي وقال وهو يتألم:

          “خذ بطاقتي، أهرب من هنا الآن، توجه نحو السيارة وأنطلق نحو الميناء، ستجد قاربًا مخبئًا بين الأشجار، أستخدمه للهروب”

          “أنت بحاجة للمساعدة الطبية، لا أستطيع تركك هنا”

قال وهو يشير إلى إيريك الذي عاود الوقوف:

          “يجب أن أقضي على هذا الوغد قبل أن يسترد وعيه، المخدر لن ينفع معه لفترة طويلة، هيا أهرب”

قمت من مكاني وركضت نحو المصعد، نظرت لخلفي حيث المعركة، كانت معركة حياة أو موت لوحشين ضاريين قد تلاقيا، كانت الأفواه تفتح بشكل مخيف وينقض كل منهما على جسد الآخر ويعضه، استطاع سيباستيان تحطيم ذراع لإيريك وتمزيق جزء من ساقه، لكن إيريك كان أقوى وكان العجوز في وضع لا يحسد عليه، كان العجوز يصرخ:

          “أخرج من هنا أيها الأحمق ولا تنظر خلفك”

ركبتُ المصعد ونزلت به إلى طابق المخزن، ركضت نحو السيارة، ثم اهتزت الأرض واختل توازني، كان المصعد قد سقط و تحطم وسقطت جثة العجوز أمامي، ثم سقط فوقه إيريك، نظر نحوي بنظرة نارية ومشى بخطوات سريعة متقطّعة نحوي، اللعنة، قفزت لداخل السيارة وقمت بإدارة المحرّك لكنها لم يعمل، حاولت مرة أخرى ولم يعمل أيضًا، تذكرت أن العجوز قام بلكم أسفل المقود حتى تعمل، لكمتها وقد نجح الأمر، بدأ محرك السيارة بالعمل، قمت بضغط دواسة البنزين بأقصى ما أستطيع، فانطلقت السيارة بسرعة، لا… ليس نحو المخرج بل نحو إيريك وقمت بدهسه، سمعت صوت عظام تتحطم منه، ثم اصطدمتُ السيارة بالحائط.

          “هذه من أجل سيباستيان العجوز”

لكن ذلك لم يمنع إيريك من الوقوف مجددًا وهو يصرخ:

          “سوف أستمتع بتقطيعك من دون تخدير، سأسقيك من كأس الألم ذاته، أنت بشري فاني، كيف تجرؤ على تحدّي إله الموت؟ أنا أنوبيس أيها الفاني اللعين”

السيارة لن تفيد الآن، فقد اشتعلت النيران فيها، شممت رائحة الوقود القادم من مولد الكهرباء وتذكرت كلام قبطان الباخرة، بأنهم ينقلون الطعام والوقود لهم في الصناديق، لا بد أن معظم الصناديق الموجودة قرب المولد هي صناديق وقود لتشغيل مولد الكهرباء والسيارة هنا، أمسكت بعض الخشب الذي تحطم من سقوط المصعد وأشعلته وسارعت بالركض، قفز إيريك نحوي واسقطني أرضًا، لكنه هو الآخر سقط مترنحًا على الأرض، وقفت وجمعت الخشب المشتعل وألقيت به على الصناديق قرب مولد الكهرباء، اشتعلت الصناديق.
“وهذه من أجل العلماء الآخريين الذين قتلتهم بأشنع الطرق”
يجب أن أهرب الآن، ركضت نحو المخرج الخلفي حيث مخرج السيارة، أما  إيريك كان يزحف بغضب نحوي، أدعو الله أن ينفجر الوقود، ولكن بعد أن أبتعد المسافة الكافية!، إن انفجر الآن فأنا في عداد الموتى، بدأت سلسلة من الانفجارات بالحصول من خلفي، اللعنة سوف أموت مع هذا الوغد، المخرج أمامي، كان إيريك لا يزال يصرخ:

          “سوف أقتلك أيها الفاني… كيف تجرؤ؟”

حدث انفجار ضخم وطرت في الهواء من قوته وارتطمت بقوة بشجرة أمامي مما جعلني أفقد الوعي.

لا أعلم كم مضى من الوقت، لكني استيقظت وأنا أشعر بالوهن، الظلام الدامس يخيم على الجزيرة بعد تحطم المولد، هناك جرح عميق أسفل الصدر، هل كان ذلك بسبب الانفجار أم حينما أسقطني إيريك أرضًا، لا يهم، سأموت يا إلهي، لا أريد أن أموت، لقد خسرت الكثير من دمائي، الخوف، الجزع، أنا على الجزيرة وحدي ولا أحد هنا موجود ليساعدني، لا أريد أن أموت وحيدًا مثلما حدث مع إيداشي … لا أريد …لكن لا خيار آخر … لا بد من أنني سأموت… 

فجأة عادت الإنارة للمختبر، بالتأكيد، مختبر كهذا يجب أن تكون به وحدة طاقة للطوارئ ومن دونه ستفَسد العديد من الابحاث والتجارب في حال تلف المولد، هنالك هاتف في داخل المختبر…

لا … سوف تصل المساعدة على الأقل بعد أربع ساعات وحينئذ سأكون ميتًا لا محال، أنار الضوء القادم من المختبر جثة إيريك المستلقية على عدة أمتار مني، الخوف من الموت ألهمني فكرة مخيفة، هناك طريقة وحيدة لأنجو، لا أرغب بفعل هذا، لكن لا خيار أخر لدي، قمت بالبحث بآخر ما أمتلكه من قوة عن أنبوب لنقل الدم، من حسن الحظ أن الانفجار قد دّمر طابق المخزن فقط، أعرف أين أذهب، الغرفة رقم ثمانية، هنالك جميع المعدات الطبية التي أحتاجها، أشعر ببرد شديد، لا بأس أن نمت قليلًا، أليس كذلك؟ … لا إن نمت فسوف أموت ….

 

كان الأمر مؤلمًا للغاية… لكن حين دخلت دماء إيريك التي هي دماء الكائن أكس إلى جسدي…. حينها تذكرت كلام إيريك “لن تفهم إلا حين تكون على حافة الموت ولا يفصلك شيء عنها ثم تنجو وتصبح أقوى من أيّ وقت مضى، أقوى من أيّ بشري، ستعرف في تلك اللحظة الحقيقة، ستعرف بأنك أنوبيس”… شعرت بالقوة تسري في عروقي، شعرت أنني أفهم وجهة نظر إيريك … شعرت أن تجارب إيريك يجب أن يكملها شخص ما، شخص جدير بأن يصبح أنوبيس… أدركت أن هذا الشخص هو أنا! أنا هو أنوبيس!

 

 

 

 

(صوت رنين الهاتف)

(صوت رفع سماعة الهاتف)

– “مرحبًا صديقي… أنه أنا …الدكتور غسان … هل أنت متفرّغ لتشارك معي بأضخم تجربة قد تغيّر البشرية إلى الأبد؟ … أنت لا زلت غير مرتبطٍ بأحد ولهذا سيكون من السهل أن تتأقلم وتعيش هنا في جزيرة جارادي في أستراليا… سأرسل لك التذاكر قريبًا…سأكون بانتظارك….”

(صوت إغلاق الهاتف)

-تمت-

 

 

error: Content is protected !!